ترجمة

السبت، 1 مايو 2010

ما بين الحسبة الفكرية والحسبة الشرعية!!!!

بسم الله الرحمن الرحيم
وصدق الله العظيم إذ يقول..

أحبائى...
يعتقد الكثيرون ممن يتوهمون أن بعضا ممن ينتقد الجموح والتطرف فى الفكر والإجتهاد يمينا ويسارا .، ويعتبرونه نوعا من الضلال والزيف، والوقوع فى المنكر ،والبعد عن المعروف .، أن هذا الفعل منهم نوع من الحسبة على الرؤى والحجر على الأفكار والإبداع .، ولهذا أضع هذا النشر اليوم للتوضيح أن هناك فرق شاسع وكبير بين الحسبة الفكرية بمعناه الذى يؤدى إلى الحجر على الرؤى ، والإجتهاد وإعمال العقل.، وبين الحسبة الشرعية والتى تعنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر... منقول من كتاب (فقه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) للأستاذ الدكتور/محمود توفيق محمد سعد ، جامعة الأزهر .
!!!!

الحمد لله القائل : ( كُنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله 00 ) ( آل عمران : 110 ) ، وأشهد أن لاإلاه إلا الله الذي جعل خيرية هذه الأمة وتميزها ، وقوامها ، وكيانها ، وخلودها ، واستمراريتها ، منوطاً بقيامها بالحق ، والدعوة إليه ، والنشر له ، والإغراء به ، واستمرار حراسته ، والدفاع عنه ، حيث لم يرض الله لها ـ وهي أمة الرسالة الخاتمة ـ أن تكون صالحة بذاتها ، بل لابد أن تكون صالحة بذاتها ، مصلحة لغيرها ، مضحية في سبيل تمكين الحق ، مدافعة للباطل ، حتى تستحق صفة الخيرية ، والتميز ، والفضل .

قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ( المائدة : 8 ) .

ذلك أن الخاتمية تعني فيما تعني : توقف النبوات : وتوقف النبوة ، يعني : توقف التصويب من السماء ، لأي منكر وخروج وانحراف ـ لذلك لابد من أن تكون القوامة على الحق ويكون التصويب مستمراً ، لأن الشر من لوازم الخير، والمنكر من لوازم المعروف ، والتدافع بين الخير والشر ، والمعروف والمنكر ، من سنن الله الاجتماعية في الخلق ، قال تعالى : ( كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ( الرعد: 17 ) . وقال : ( ولولا دفع الله النَّاس بعضهم ببعض لَّهدَّمت صوامع وبَيِعُُ وصلوات ومساجدُ يذكر فيها اسم الله كثيراً 00 ) ( الحج : 40 ) .

ولولا هذا الضرب ، بين الحق والباطل ، وهذا التدافع ، بين الخير والشر ، لتوقف التاريخ ، وانتهت الحياة ، وتوقف الاختيار ، ولم يبق أي معنى للتكليف وأي مدلول للابتلاء ، لذلك جعل الله التصويب في الرسالة الخاتمة ، وفي أمة الرسالة الخاتمة ذاتياً ، يمارس في ضوء قيم وهدايات وثوابت الوحي ، وجعله تكليفاً شرعياً ، يتحدد بمقدار الاستطاعة ، وسبيلاً لاستمرار الأمة ، ومناط خيريتها ، وتميزها ، كما أسلفنا .

ذلك أنه لا معنى لخلود الرسالة ، الذي يعني استمرار الحق ، واستمرار حراسته ، والقيام به ، وتقديم النماذج التي تجسدها في كل زمان ومكان ، إِذا لم يستمر التصويب ويستمر التجديد وإنتاج النماذج وتستمر الأمة القائمة به .

والصلاة والسلام علي الذي بُعث في الأمة رسولاً منها ، يتلو عليها ، آيات الله ، ويزكيها ، ويعلمها الكتاب والحكمة ، ويضع عنها إِصرها والأغلال التي كانت عليها ، يشهد عليها ، ويصوب مسارها لتتحقق لها صفة الخيرية ، وتتأهل بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها ، لتكون شهيدة على الناس إلى قيام الساعة.، والقائل((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة .، فأصاب قوم أعلاها وقوم أسفلها...فجعل الذين فى أسفلها كلما استقوا "أى طلبوا الماء " مروا على من فوقهم .، فقلوا فى أنفسهم لو أحدثنا فى نصيبنا هذا خرقا نستقى منه فلا نؤذى من فوقنا..فإن تركوهم وما أرادوا لهلكوا وهلكوا جميعا.، وإن أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعا)).، 00 فكانت هي أمة القيادة بما أورثها الله من الكتاب ، واصطفاها له ، لأنها وحدها التي تمتلك الإمكان الحضاري ، إمكان التصويب ، بما اختصت من قيم السماء الصحيحة ، وتمتلك الشهادة على الناس ، ولهم ، بما تحقق لها من شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ( وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس 000 ) ( الحج : 78 ) .
لقد عانى الإنسان من هذا الحكم باسم الدين ، أو ما عرف بتاريخ أوروبا باسم الحكم الثيوقراطي ـ الذي يحاول بعض العلمانيين إسقاطه على الإسلام اليوم ـ أشد المعاناة ، حيث لم يعد الحكام يتسلطون على دنيا الإنسان ، ويلغون وجوده واختياره ، وإنما يمتد التسلط ، ليشمل أخراه ومصيره ( !) وكان من المستحيل عقلاً ووقعاً ، أن يستمر هذا التسلط والتأله ، منفصلاً ومنكراً لله تارة ومستخدماً اسم الله وإرادته تارة أخرى .

ونستطيع أن نقول بكل الاطمئنان الذي يشهد له التاريخ ، وتؤكده القيم الإسلامية : إن الإٍسلام هو الذي أعاد الأمور إلى نصابها وصوّب معادلة الإنسان والسلطة ، وجسد هذا التصويب في الواقع العملي للناس، وذلك عندما نزع صفة الألوهية عن كل المخلوقات ، وأعلن المساواة في الإنسانية ، والخلق ، بين الحاكم والمحكوم ، والغني والفقير ، واعتبر أن السلطة هي في نهاية المطاف تكليف ، وأمانة ، وإجارة ، وليست إمارة ، وتشريفاً ، وتعالياً ، وتسلطاً ، وأنها مسؤولية ، من أعلى وأعظم المسؤوليات ، وأن السلطان إنسان مخلوق ملتزم بشرع الله ، وملزم به ، وأن بيعته ، لا تنعقد إلا بهذا الالتزام ، وطاعته لا تستمر إلا بالمحافظة على هذا الالتزام ، وأن الأمة مسؤولة ، أفراداً وجماعات ، عن مراقبة هذا الالتزام ، ومدى سلامته ، وأن بيعته تنحل ، والطاعة له تتوقف في كل أمر بمعصية 00 وقد يكون الأمر فوق ذلك ، فلا يقتصر الأمر على التعامل السلبي وهو توقف الطاعة بل يتجاوز إلى تحقيق الفعل الإيجابي ، والتكليف الشرعي بالتقويم ، الذي يتأتى من حسبة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، التي لم تعد في الإسلام فعلاً وكسباً وتكليفاً ومسؤولية للمحكوم ، بل أصبحت مطلباً واستدعاءاً من الحاكم نفسه .

ولعل في قولة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ كأول خليفة في الإسلام ، بعد توقف الوحي ، ما يعتبر عقداً اجتماعياً سياسياً ، ودليل عمل وتعامل في الإطار السياسي ، وهو الموقع الأخطر والأدق ، في تاريخ العلاقة بين الإنسان والسلطة ، يقول أبو بكر رضي الله عنه في أول كلمة له بعد الخلافة : وُليت أمركم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأطيعوني ، وإن أسأت فقوموني ، أطيعوني ما أطعت الله ، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم ، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

ولا غرو في ذلك ، فأبو بكر رضي الله عنه ، هو صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم ن الذي استقى منه المعنى الإٍسلامي الذي يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وهو أحد رواة الحديث النبوي الشريف الصحيح ، الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يَعُمَّهمُ اللهُ بعقابٍ منه )) ( رواه أبو داود ، والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة ) .

وفي هذا نرى أن الإٍسلام لم يكتف بإباحة عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإنما أوجبها 00 والحاكم المسلم ، لم يكتف بالسماح لها ، وإنما استدعاها وأصّلها ، حتى يكون التزام المسلم بالفكرة ، والالتقاء عليها وليس الالتزام بالأشخاص ، والجماعات ، وحتى تكون معايرة القبول والرفض ، بالحق والمبدأ والقيمة ، وحتى تؤصل قاعدة معرفة الأشخاص بالحق ، لا معرفة الحق بالأشخاص ويصبح معيار المسلم : اعرف الحق تعرف أهله ،وهذا يعتبر المدخل والأساس الشرعي لحسبة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.
لذلك نقول : إن حسبة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، تعني: امتداد مرحلة الروح ، وفاعلية الفكرة ، واستمرارية شحذها ، وتجديدها ، وعدم انقطاعها 00 فقد تضعف الأمة ، وتسقط ، وتصاب ، وتمرض لكنها لن تموت ، لأن علاجها تحمله في ذاتها . وعلاجها وخيريتها ، إنما هو باستمرار القيام على الحق ، وتقويم سلوك الأمة ، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ، كمسؤولية تضامنية تعني كل أفراد الأمة ذكوراً وإناثاً ، وتأتي ثمرة للموالاة : فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، حيث نلحظ هنا أن دور المرأة في هذه الحسبة يعتبر من وظائفها الأساسية ، وثمرة لموالاتها ، ومن لوازم إِيمانها وولائها لأمتها ، وقيامها بأمر دينها 00 لقد ارتقت هذه الحسبة بالمرأة ، وارتقت المرأة بها ، حتى وقفت في المسجد ، وفي مرحلة القدوة في خير القرون ، تأمر وتنهى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه .

فالدين في غاياته النهائية هو القيام بحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حيث لخصه الرسول صلى الله عليه وسلم ـ فيما رُوي عن تميم الداري ـ بقوله : (( الدين النصيحة )) ، قلنا لمن ؟ قال : (( لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم )) ( رواه مسلم ) .

ومن هنا ندرك خطورة دعوى فصل قيم الدين ، عن مسالك الحياة ، والممارسات اليومية ، وكيف أن هذه المفهومات الدخيلة ، بدأت تحاصر حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بسبب شيوع الاستبداد السياسي والارتهان الحضاري 00 لقد بدأت تتعطل وتُهمش هذه الحسبة ، بسبب التضليل الثقافي ، وتُتَجَاوز من أجل تكريس فلسفات الهزائم ، وشيوع مناخها ، وتُنتقص بسبب التأويل الفاسد للنصوص ، والتنزيل المغشوش لها على الواقع ، وتُقطَّع وتُبعَّض بسبب حالة الخزي التي تعيشها الأمة في تمثلها للرؤية القرآنية الشاملة ، ويعبث بأسباب النزول ، وإسقاط هذه التفاريق على أحوال ووقائع ليست لها ، والعودة إلى فقه الحيل ، الذي من أبرز مهامه وغاياته : إخضاع القيم الإسلامية والأحكام الشرعية للواقع ، وتسويغه بها ، بدل أن يُقوَّم الواقع ويسدد بها . فإذا كان الفارق بين العبقرية والجنون شعرة التعقّل والإتزان..وكان الفارق بين الحرية والإباحية شعرة التدين والإلتزام.، فإن الفارق بين الحسبة الفكرية والحسبة الشرعية ضرورة الإيمان بوجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر!!!

والكتاب الذي نقدمه اليوم يجيء في وقته المناسب ، لأنه يشكل مساهمة طيبة ، ومحاولة تأصيلية لشرعية حسبة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ودورها في بناء خيرية الأمة : ( فلا خير في الأمة إِن لم تقلها ، ولا خير في الحكومة إِن لم تسمعها ) ، وتحرير شروطها وأدلتها الشرعية من الكتاب والسنة ، والسيرة ، وحياة الصحابة ، بعد هذا العبث بالمفهومات الشرعية والتطاول عليها ، وشيوع الغثاء الثقافي ، والتطبيع للمنكرات ، باسم الحريات الشخصية .

لكن يبقى الأمر الذي لا يقل عن ذلك أهمية في نظري ، هو الخروج بهذه الحسبة العظيمة من إطار الممارسة البسيطة والساذجة أحياناً ـ التي لم تتطور وتمتد مع تطور المجتمعات ـ إلى إبداع الأوعية الرقابية والإعلامية ، المتقدمة ، التي تتوفر عليها اليوم تخصصات متعددة ، حتى نتمكن من ممارسة التغيير المأمول ، وتحقيق البديل المطلوب ، في ضوء دراية بالواقع وفقه بالنص ، وحتى نكون في مستوى عصرنا ممارسةً ، وإسلامنا هداية ، ومرجعية ، وهدفاً .،

والله من وراء القصد .،وهو الهادى إلى سواء السبيل.
*********

ليست هناك تعليقات: